الرئيسية / أخبار / اقتصاد / مجتمع التكافل والإحسان:في ضوء آية واحدة من آيات القرآن

مجتمع التكافل والإحسان:في ضوء آية واحدة من آيات القرآن

د. محيي الدين غازي

  رئيس قسم البحوث، دار الشريعة للاستشارات المالية والقانونية بدبي.

إن الرب الكريم الرحيم الذي أطعم قريشا من جوع وآمنهم من خوف، أرشد المؤمنين إلى تكوين مجتمع لاجوع فيه ولا خوف. إنه مجتمع الإحسان والتكافل. وهنا سأعرض بعض ملامح ذلك المجتمع، ظهرت من خلال التأمل في آية عظيمة من آيات القرآن الكريم، والتي استحسنت أن أسميها آية الإحسان.

يقول الله عزوجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا.[النساء(36)]

وهذه الآية توحي بأن الإحسان هو السلوك المطلوب في علاقة كل فرد من أفراد المجتمع بغيره. فالإحسان إلى الوالدين، والإحسان إلى ذوي القربى، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والإحسان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، والإحسان إلى ابن السبيل والإحسان إلى ملك اليمين.

والإحسان وصف عظيم، وهو أرقى أنواع السلوك عرفته البشرية، فهو حبّ ونصيحة، وبرّ ورحمة، وكرم وتواضع، ورعاية وكلمة طيبة، ومد يد العون في قضاء الحوائج ودفع النوائب. وقد أصاب من قال:

وَلَمْ أرَ كالمَعْرُوفِ أمَّا مَذَاقُهُ … فَحُلْوٌ وَأمَّا وَجْهُهُ فَجَميلُ

والقاعدة في الإحسان هي: “وأحسن كما أحسن الله إليك”، وهذه القاعدة القرآنية تمنح للإحسان غاية لا يدرك منتهاها، فأنّى لأحد كائنا من كان أن يحسن كما أحسن الله إليه؟!! إلا أن تلك الغاية تحفز أهل الهمم العالية إلى نيل المعالي، فلا يرضون بالدون، والقليل من الإحسان.

والإحسان له جانبان، فالإحسان في جانب المحسن يقتضي أن يكون لائقا لما يملكه المحسن، فالندى من البحر للظمآن ليس من الكرم في شيء، وإنما الكرم اللائق بالبحر هو السحاب الثقال والأمطار الغزيرة التي تحيي الأرض وتفيض بها العيون والأنهار.

كما أن مقتضى الإحسان في جانب المحسن إليه أن يكون على قدر حاجته ومصيبته، فمن كانت مصيبته أعظم يكون قدر الإحسان إليه أكبر لكي يرتقي إلى مستوى المعيشة العام، ولا يبقى طوال حياته على خط الفقر ينتظر لقمة العيش واليسير من العون من هنا وهناك. وكما قال الشاعر:

رَأيْتُ الْيَتَامَى لا تَسدُّ فُقُورَهُمْ … هَدَايا لَهُمْ في كُلِّ قَعْبٍ مُشَعَّب

وميزة الإحسان أنه يعطي المحسن إحساسا من السعادة لا يوصف، ربما يفوق أضعاف ما يشعر به من نجا من مصيبة كبيرة بسبب ذلك الإحسان، فالناجي من المصيبة يشعر بأنه وجد حياة جديدة، بينما المحسن يشعر بأنه وجد لحياته معنى جديد، ويشعر حينما يحسن إلى الآخرين بأنه يعيش لنفسه حياة مضاعفة. ولذلك من ذاق طعم الإحسان تصبح المبادرة إليه ديدنه، يتلذذ به، ولا يفوت فرصة تسنح له. وقد قارب الحقيقة من قال:

وإنَّكَ لاَ تَدْرِي إذا جَاءَ سَائلٌ … أأنْت بِمَا تُعْطِيهِ أمْ هُوَ أسْعَدُ

ونلاحظ أن آية الإحسان حصرت جميع الأصناف التي توجد أو قد توجد في المجتمع، والتي ربما تحتاج إلى رعاية من أفراد المجتمع، وأمرت بأن يكون أساس التعامل مع تلك الأصناف كلها هو الإحسان.

كما يظهر بعد الوقوف المتأمل أن الآية الكريمة إضافة على الأمر بالإحسان إلى مجموعة من الناس قدّمت بطريقة معجزة منظومة متكاملة للكفالة (وهي إحسان شخص إلى شخص) والتكافل (وهو التزام مجموعة بإحسان بعضها إلى بعض).

وتفصيل ذلك أن الفرد في مجتمع يكون إما في حاجة ماسة إلى دفع الضرر الطارئ، وهم بعض أفراد المجتمع  ومنهم اليتامى والمساكين، ووضعهم يتطلب كفالتهم الفورية ممن يستطيع من أفراد المجتمع، وإما في حاجة إلى تأمين ما على دفع الأضرار المحتملة في المستقبل، وهي حاجة كل أفراد المجتمع، غنيهم وفقيرهم، صحيحهم ومريضهم، قويهم وضعيفهم، حيث كل واحد من أفراد المجتمع ومهما كان في عيش رغيد وثروة كبيرة، فإنه يخاف في نفسه من تقلبات الدهر ونوائب الأيام، وهذا الخوف يكمن في كل شخص، وهو خوف طبيعي يتفاوت في القدر عند كل إنسان، وكثير من الهيئات تقوم بتفخيم وتهويل ومن ثم متاجرة ذلك الخوف، فيدخل الإنسان الخائف مع مؤسسات تستغل خوفه في مقامرة مصحوبة بالشح.

وآية الإحسان تعالج شتى أشكال الخوف الموجود بين أفراد المجتمع، فهناك، على سبيل المثال لا الحصر، من يخاف من العجز والضعف في شيخوخته، فأمرت الآية الولد بالإحسان إلى والديه، وهناك من يخاف على ولده الصغير فيما إذا داهمته المنية، فأمرت جميع أفراد المجتمع بالإحسان إلى اليتامى، وهناك من يخاف على نفسه من الفقر، فطمأنته الآية بأنه لا داعي للخوف فإنه يعيش في مجتمع مأمور بالإحسان إلى المساكين. وهناك المسافر الغريب آن له أن لا يخشى في غربته، فإنه في مجتمع آمن شعاره الإحسان إلى الجميع ومنهم ابن السبيل. وهكذا يعيش الجميع في أمن من الخوف أيا كان ذلك الخوف.

والخوف من النوائب يزداد حينما يشعر الإنسان بأن عليه إن نزلت نازلة أن يتكبد الأضرار وأن يتحمل المتاعب وحده لا يقف بجانبه أحد، وذلك هو دأب المجتمعات المادية يشارك الناس في الغنم ولا يشاركون في الغرم، يجد الشخص نفسه محاطا بالأصحاب في وقت اليسر ويتفاجأ في وقت الشدة وكأن أحدا لا يعرفه. وعبّر عن هذا الحال بعضهم فقال:

وَمَوْلى جَفَتْ عَنهُ الْمَوَالِي كأنهُ … مِن البُؤْسِ مَطْليٌّ به الْقارُ أجرَبُ

وآية الإحسان تستأصل دواعي الشعور بالوحدة في وقت الشدة، وتقدم آلية تجعل جميع أفراد المجتمع في أمن من الخوف، وذلك عن طريق إلقاء واجب الإحسان على ذوي القربى والجار والصاحب بالجنب على وجه الخصوص. فإن الأمر بالإحسان إلى هذه الطوائف الثلاثة، يشكل نظاما تكافليا فريدا، يلقي على كاهل كل فرد مسؤولية الرعاية والعناية تجاه هؤلاء الثلاثة، وفي نفس الوقت يوحي إلى ذلك الفرد المحسن إليهم أنه ليس وحيدا بل هو محاط بذوي القربى وبالجيران وبالأصحاب وهم مأمورون برعايته والإحسان إليه. فهو بصفته قريبا وجارا وصاحبا مسؤول تجاه الكثيرين والكثيرون بنفس الصفة مسؤولون تجاهه، وهكذا يتكون نظام التكافل الاجتماعي في أروع صوره، وهو نظام شامل لجميع أفراد المجتمع لايغادر صغيرا ولا كبيرا.

والتشريع القرآني قريب إلى الفطرة وقابل للتطبيق، فلم يكتف بالتوجيه العام إلى كافة أفراد المجتمع  بالإحسان إلى كل فرد يستحق الإحسان، لأن ذلك قد يؤدي إلى إهمال وحرمان في حق الكثيرين، وإنما حدد نطاق المسؤولية، وحدد نطاق الرعاية، لتشمل المسؤولية جميع من يستطيع تحمل المسؤولية، ولتتناول الرعاية جميع من يستحق الرعاية، فإن كل فرد في المجتمع له ذوو القربى وله الجيران وله أصحاب بالجنب، يستطيع إحصاءهم والتعرف على أحوالهم لقربه منهم، وهو بطبيعته يميل إلى الإحسان إليهم لما بينه وبين هؤلاء من صلة وقرب وقرابة. وهكذا كل من هؤلاء يؤدي ما عليه من واجب الإحسان وكل يستفيد بما على غيره ممن يشاركه في هذا الوصف من واجب الإحسان. فكل يحسن وكل يحسن إليه. ويعيش الجميع في ظلال التوجيهات الربانية، من غير جوع ولا خوف ولا شعور بالوحدة في مواجهة الظروف الصعبة، بل في حصن منيع من الإحسان والتكافل، مكون من ثلاثة أسوار، سور ذوي القربى وسور الجار وسور الصاحب بالجنب. فلتهجر البشرية الشح والأنانية والانعزالية، والتي هي من رواسب المادية الحديثة، ولتعد إلى ذلك المجتمع الراقي، مجتمع الإحسان والتكافل. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.

عن Maeeshat Desk

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

إلى الأعلى