محمد المختار الفال
حقل.. ضباء.. شرما.. البدع.. قيال.. مقنا.. رأس الشيخ حميد، أسماء لم تكن تتصدر عناوين الأخبار إلى قبل أسبوعين، على رغم أنها كانت مسرحاً لتاريخ الإنسان منذ آلاف السنين، ومعرضاً لتنوع مظاهر الطبيعة وجمال تضاريسها، وكنزاً للثروات الطبيعية في شمال غربي المملكة العربية السعودية.
حقل بشواطئها الذهبية الدافئة المسترخية في حضن جبالها الشامخة، رأس حميد، بثروته البحرية ومخزونه من الغاز، ضباء، لؤلؤة الشمال، بجزرها وشعابها المرجانية وسهولها وما احتوته من خيرات البحر ومكامن الغاز. المناخ المعتدل في شرما – مقنا – قيال – طيب اسم، إلى جانب استلقائها على شاطئ البحر الأحمر. هذا المسرح الطبيعي الخلاب هو الذي سيحتضن مدينة المستقبل «نيوم» لتكون «قاطرة» الوطن، تنقله من حلم الحاضر إلى واقع المستقبل. فجأة أصبحت هذه المنطقة الوادعة المليئة بالخيرات غير المستثمرة في «بؤرة الحدث»، بعد أن كان أهلها يتساءلون: لماذا غابت هذه «الثروة» عن عيون رأس المال الوطني الطموح؟ اليوم تخرج من «صمتها» و«تواضعها» إلى الضوء الساطع، تتيه بـ«غدها» الواعد بعد أن أصبحت حاضنة لمشروع المستقبل.
وهذا المشروع «الحلم» فاجأ الكثيرين، «موجة عالية» في هزات التحديث المتوالية ضمن مشاريع أكبر صندوق سيادي أسسته المملكة العربية السعودية في إطار خطة وطنية طموحة هدفها الخروج من مرحلة الاعتماد على النفط إلى عصر تنويع المصادر واستثمار قدرات الإنسان المشارك في علوم عصره، وهي تفتح أبوابها للاستثمارات الخارجية لنقل الخبرات والتكنولوجيا و«توطينها»، وهذا يعني الشروع الجاد في إحداث «نقلة نوعية» في قوانينها وأنظمتها الإدارية وآليات تعاملها مع رأس المال الأجنبي الباحث عن الربح في بيئات جاذبة تواكب سرعة احتياجاته وتوفر لعناصره البشرية «ظروفاً اجتماعية» تمكّنهم من العيش من دون أن يفقدوا ما توفره لهم بيئات أخرى منافسة.
ومشروع «نيوم» فيه الكثير من التفاصيل، ومنها: أنه يقوم على 26500 كم متربع ويمتد على شواطئ يبلغ طولها 460 كم على البحر الأحمر والجزر ذات الطبيعة الخلابة، إلى جانب قربه من الأسواق والممرات الحيوية، وستكون له هيئة قضائية خاصة لحل المنازعات في ظل أنظمة وتشريعات مستقلة، أي مستثناة من قوانين الدولة. الضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود القانونية على الأعمال التجارية. وسيطبق، في الجانب الاجتماعي، المعايير العالمية لنمط العيش في الثقافة والفنون والتعليم. وكل هذا معناه، بشكل واضح لا لبس فيه، أن المشروع سيكون مستقلاً عن أنظمة المملكة العربية السعودية، في ما عدا السيادية.
وهذه المدينة «الذكية» سيدخلها «مواطنون» من نوع خاص (الروبوتات)، وسيعملون على رفع المنافسة في سوق العمل الأمر الذي يجعل «المعرفة» و«المهارة» تأشيرة الدخول إليها، وتحديد «شروط السكن» أي أن الأبواب مفتوحة أمام المواهب ومرحب بأصحابها إذا تسلحوا بالتعليم والمهارات القادرة على التكيف مع النظرة الاستراتيجية المستقبلية، ومن الطبيعي أن تستقطب هذه «البيئة الذكية» المواهب من داخل السعودية ومن خارجها، وستوفر للجميع العيش الكريم في ظل أنظمة وقوانين تساوي بين الجميع وفقاً لشروط «الأهلية»، مع توفير حياة راقية بكل مستلزماتها من تعليم وصحة واتصالات ومواصلات وترفيه وأمن وتكنولوجيا حديثة، تمكن أهل هذه المدينة من الاستمرار في تقديم «النموذج القدوة».
والأحلام الكبيرة تحتاج إلى «حزمة متكاملة» من مستلزمات التحديث في كل القطاعات، تحميها إرادة سياسية صلبة تعرف ماذا تريد وقادرة على مواجهة التحديات وتوجيه والإمكانات لترجمة الخطط والبرامج في مشاريع جاذبة لرأس المال الوطني والشركاء الخارجيين، وهنا تأتي كلمات صاحب الرؤية ومحرك آلياتها ومفجر طاقات شباب الوطن ولي العهد رئيس المجلس الاقتصادي الأمير محمد بن سلمان، لتزيل كل شك وتبدد كل ارتياب وتشحن النفوس بالأمل وتدفع العقول الخلاقة إلى واحة التفاؤل المؤسس على وضوح الهدف وواقعية الحلم: «الإرادة السياسية والشعبية القوية تتكاتف لدفع عجلة التنمية في السعودية مما يعزز من قدرة مشروع «نيوم».. عناصر نجاح مشروع «نيوم» كلها موجودة في السعودية، ولدينا العزيمة للانتقال من العالم الحالي إلى عالم أفضل.. الشعب السعودي يحفزني، وسلاحنا الحقيقي هو الشباب.. سنجمع المبدعين والموهوبين من كل العالم لصنع شيء مختلف.. نريد أن نحجز مكاناً في مستقبل العالم.. لا نريد أن يأتينا في مشروع «نيوم» سوى الحالمين.. أعد جميع مناطق المملكة أن يحدث فيها نقلة نوعية مثل منطقة تبوك».
وهذه الجمل القصيرة من حديث الأمير محمد بن سلمان عن المشروع تلخص ما يحتاج إليه، إذ تجمع: تضافر الإرادة السياسية والشعبية والعزيمة القوية ووضوح الرؤية والعمل على توفير ما يحقق القناعة بأهمية الانفتاح على العالم والتعاون مع المبدعين والموهوبين في كل الدنيا، وكل ذلك تحفزه أحلام مشروعة قادرة على تجاوز المثبطات والمعوقات والتحرر من وهن المترددين والمتوجسين، ومن دواعي التفاؤل والاطمئنان إلى جدية المشروع سلامة الأسس التي قام عليها، حجم وقدرات الشركاء الأجانب الذين أتوا من الشرق والغرب ليسهموا في الخطوات الأولى، فهؤلاء الخبراء ورؤوس الأموال ورواد التكنولوجيا يبحثون عن تحقيق المصالح ولا يدخلون في الشراكات مجاملة لأحد أو مراعاة لخواطره، ومن دواعي «الاحتفاء» بهذا النوع من المشاريع أنه يمكن أن يكون قاطرة للوطن كله تخرجه من حال «النوكيا» إلى آفاق «الهاتف الذكي» الذي مثل به ولي العهد، وحتى لا تكون هذه المشاريع المتطورة «جزراً» معزولة تفتح التقدم لفئة قليلة من الشركات والأفراد يبقى الوطن في الحال «نوكيا».
وعلى رغم أهمية مشاركة المختصين في مناقشة كل ما يتصل بالمشروع وتسليط الضوء على مناهجه وبرامجه وآثاره الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية بكل ما يتطلبه مشروع كهذا من الموضوعية والشفافية والصدقية، إلا أنني أعتقد أن هذه المرحلة هي مرحلة «الدعم والتفاؤل والتبشير» بإظهار الإيجابيات ودفع المخاوف والتوجسات التي تضعف الهمم وتعرقل الحركة أو توهن الخطوات، المرحلة تحتاج إلى التحفيز والتشجيع واستنهاض القدرات وشحذ الهمم والتطلع إلى المستقبل الواعد، ومن مسؤولية وسائل الإعلام الوطنية ومراكز الأبحاث والتجمعات الاقتصادية والهيئات المهنية النظر إلى المشروع بروح التفاؤل، من دون التخلي عن الموضوعية، التي تصحح وتدقق وتساعد في ترشيد الخطوات، والإعلام الداعم (المتفائل) ليس له أن يتخلى عن مسؤولية وأمانة الصدق والموضوعية والرأي المعين على فهم الحقائق لغير المتخصصين، والمشروع الحلم ليس «مسابقة أدبية» يستعرض فيها الكتاب والمعلقون مواهبهم البلاغية وقدراتهم البيانية ورصيدهم من قاموس العربية، المشروع «رؤية مستقبلية» لازدهار الوطن تقودها إرادة سياسية قوية تعرف ما تريد ولديها خطط استراتيجية وآليات علمية وطاقات بشرية، تمكّنها من تحقيق هذا الهدف الكبير، ودور أهل الرأي والاختصاص هو «معاونة» القيادة على إبراز أهمية المشروع وتأثيره في حاضر الوطن مستقبل أجياله.
الحياة